الأخيرة : وطن ... كاستدارة القمر


 في أوطاننا العربية المتمددة كقوس ملتهب بلا نهاية، يكثر المفتونون بالغرب.. وما أكثر  أولئك المنحازين لخياراته.. بعضهم يفعل ذلك اختياراً، وبعضهم تقية، وبعضهم بسبب  الظروف ورزايا الفقر والجهل والبطالة.... مع ذلك فليست الهجرة للغرب أمراً مذموماً، بحثاً عن الخلاص أو هروباً من الظلم أو الظلام... لكن هجرة أخرى قد تعتبر كذلك، قد تعتبر  نقيصة ومذمة تلك هي الهجرة الذهنية، الهجرة المعنوية، هجرة أبناء العروبة لعروبتهم،  لانتمائهم، لخيارهم القومي باتجاه الضفة المعادية... ما أبشع أولئك الذين يستجدون الحرية  والديمقراطية والخبز من الغزاة.
يعتقد البعض أن الوطن هو مجرد فندق يجب أن يكون من فئة الخمس  نجوم، خدمة راقية  وأسلوب عيش رغيد، فإذا ساءت الخدمة فيه حق للزبون أن يغيره  ببساطة، يدفع الحساب عند موظف الاستقبال، يحمل حقائبه ويضع نفسه في أول سيارة أجرة يلمحها، مشيراً إلى سائقها  باسم الفندق البديل.. هكذا يتعامل البعض مع مفهوم الوطن، ولقد سُئل المخرج المصري  العالمي يوسف شاهين يوماً...لماذا لا تعيش في باريس أو لندن مثلاً، وتترك القاهرة بكل اختناقاتها وأزماتها، ومثلك قادر ومتاح له ذلك.؟ فأجاب:لأن القاهرة ليست فندقاً إذا عدت إليه  مساء فوجدت المياه مقطوعة وغرفة النوم غير مرتبة أتركه لفندق آخر.. مصر وطني.. وأنا  أحب هذا الوطن أكثر من أي مكان آخر وأراه أجمل من أي بلد آخر، حتى لو كان في  نظركم غير ذلك.
لا أعطي درساً في الوطنية والولاء، لكنني أعتقد بأن الأوطان ليست علماً يرفرف، فما أكثر  الأقمشة الملونة في الدنيا، وليست خبزاً فهذا موجود على كل الأرصفة، وليست استقراراً  وأماناً فحتى حظائر الحيوان فيها أمان...الأوطان أكبر وأكثر من ذلك، إنها المكان الذي انتمي إليه، وأحبه، وأشعر بقيمتي فيه وبكرامتي محفوظة من خلاله. الوطن هو المكان الوحيد الذي لا يجب أن أجوع فيه، أو أشعر بالتهديد وبأن أحداً يستعد في  أية لحظة للاعتداء عليَّ بأي شكل.. الوطن هو الذي يحميني قبل أن أحميه، ويحبني كي أحبه، ويمنحني الأمان لأعطيه الولاء، وحين لا يحدث ذلك، حين يجوع الإنسان في وطنه، حين  يُداس بالأقدام، حين تصادر أبسط حقوقه علانية في وضح النهار ونكايةً، لأنه عاشق لوطنه  حتى النخاع، حين لا يجد في اتساع المدى في وطنه شيئاً ولو بسيطاً من الأمان، حين يتوزع  الوطن، أو يوزعه البعض بحسب الفئات وعلى حسب مصالح المذاهب والطوائف والطبقات والولاءات والتحالفات الخارجية، لا يعود الوطن وطناً.. يصير سوق  نخاسة، أو يصير غابة حيوانات.
عندها وبكل وعي الحاجة ووعي المعرفة، يجب أن يرفض الإنسان الحياة وسط الغابة، وأن  يعيد وطنه إلى قائمة الأوطان، يعيد إليه لونه وطعمه وأمنه وأمانه وهويته. يجب أن لا يرحل بحثاً عن وطن آخر أجمل وأكثر خبزاً وهدوءاً، فحين يتحول الوطن قوساً ملتهباً علينا أن نعمل على تحويل القوس إلى دائرة. تشبه استدارة القمر، واستدارة رغيف الخبز الدافئ.
أخيراً: تحية للقابضين على جمرة الوطن، لأنه المعنى الموازي لإنسانيتهم الحقيقية.

عائشة سلطان

X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
غلق