ضفاف
علي عبيد
طاقية إخفاء عصرية
 من منا لم يحلم يوماً، بامتلاك "طاقية الإخفاء ؟

لقد ألهبت هذه الطاقية العجيبة خيالنا صغاراً، وجعلتنا نبحر في عوالم من الأحلام، كان من المستحيل أن تتحقق لنا على أرض الواقع، رغم أنها كانت أحلاماً طفولية لا تتعدى عالم اللعب، ولاتكسر طوق البراءة الذي يحيط بعالم الطفولة الجميل، هذا العالم الذي يزداد بريقه كلما ابتعدنا عنه، وأخذتنا الأيام إلى عوالم أقل طهراً وأكثر مقدرة على اقتلاع شجرة البراءة من نفوسنا، لتنبت مكانها أشجار أخرى هي مزيج من رغبات نفوسنا وشهواتنا وأطماعها، تخنق صوت البراءة فينا، حتى لا يعود مسموعاً، وتتلاعب بضوئها، مثل شمعة تعصف بها الريح إلى أن ينطفئ تماماً، لدى البعض، ويبقى لدى البعض الآخر ضعيفاً، نخشى عليه من الانطفاء كلما اجتاحته غيوم الأنانية والمصالح الذاتية، التي تسد وجه الشمس إذا وضعتها أمامه رياح الشر، فأنّى لضوء شمعة ذابلة أن يصمد أمامها؟!

 ذهبت أحلام >طاقية الإخفاء< مع ما ذهب من أحلام الطفولة الكثيرة، التي جرفتها سيول الحياة واقتلعتها أعاصيرها، لتعود إلينا بشكل جديد، يتناسب مع طبيعة العصر وتحولاته والتطور التكنولوجي الذي فرض طابعه على كل ناحية منه، وأضفى عليه روحه الإلكترونية، حتى غدونا نخشى على أنفسنا أن نتحول إلى "روبوتات" يحركها "الريموت كونترول"، وتتوقف إذا نفدت بطارياتها ولم تجد من يعيد شحنها·
 
" طاقية الإخفاء" العصرية تطل علينا بوجهها الجديد، من خلال الشخصيات الافتراضية التي نتعامل معها عبر " الانترنت"، وسيلة الاتصال الأحدث والأسرع في عالمنا الآن· يتمثل هذا بشكل أوضح في غرف المحادثة "الشات" التي يتجمع داخلها عدد كبير من الأشخاص، يتواصلون ويتحادثون ويعيشون حياة اجتماعية شبه كاملة، دون أن يرى بعضهم بعضاً، أو يعرفه معرفة حقيقية· فهم شخصيات افتراضية لها ملامح يحددها أصحابها بأنفسهم، ولها أسماء غير حقيقية، هي التي تختارها، ولها مزاج خاص هي التي تحدده· وفي النهاية، هي التي تختار متى تبدأ علاقتها ببقية أفراد المجموعة ومتى تنتهي، والطريقة التي تنتهي بها·

كنت أظن هذا الأمر مقتصراً على المراهقات والمراهقين الذين تتوفر لديهم أوقات فراغ كبيرة لا يعرفون كيف يستغلونها، أو لا يريدون أن يجهدوا أنفسهم في استغلالها بطريقة تتطلب منهم بذل جهود كبيرة· لكن فكرتي هذه تغيرت تماماً عندما قرأت مؤخراً، أن ديفيد ميليباند وزير الخارجية البريطاني الجديد في حكومة "غوردون بروان" التي خلفت حكومة "توني بلير"، مشهور بولعه الشديد لتكنولوجيا المعلومات وشبكة "الانترنت" وأنه أول وزير بريطاني يكتب مدونات على الانترنت منذ أن كان يتولى وزارة البيئة في حكومة بلير، وأنه يعيش حياة افتراضية على شبكة الإنترنت، تتحرك وتعمل وتلتقي بالناس، وهو ما يعد أمراً نادراً للوزراء·
 
لم أستغرب، بطبيعة الحال، أن تكون لوزير، بغض النظر عن جنسيته، شخصية افتراضية أو طاقية إخفاء عصرية، خاصة وأن "ديفيد ميليباند" البالغ من العمر واحداً وأربعين عاماً، يعتبر أصغر وزير يتولى هذا المنصب في بريطانيا منذ ثلاثين عاماً· فطاقية الإخفاء ليست حلماً طفولياً محجوزاً للعرب وحدهم، وإن كان العرب أحوج ما يكونون إليه في هذا الزمان، لكنها حلم مشروع لكل أطفال العالم، يتساوى في ذلك هؤلاء الذين ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب، وأولئك الذين ولدوا وليس في أفواههم غير ألسنتهم التي يحاول البعض مصادرتها أو قطعها، مع أنها هبة من الخالق، لا فضل لأحد في وجودها سوى الذي
X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
ملاحظاتك
المساعد الافتراضي
qr-code
حجز موعد