ضفاف
علي عبيد
علي عبيد
مكيال السعادة
هم يحسدوننا دائماً، على النعيم الذي نحن غارقون فيه، ونحن نحسدهم أحياناً، على راحة البال التي ينعمون بها·
هم يعتقدون دائماً، أننا نعيش في الجنة التي هم محرومون منها، ونحن نعتقد أحياناً، أن جنتنا جحيم هم منه ناجون·
هم يعتقدون دائما أننا نسكن أبراجاً عالية لا نكاد نراهم منها، ونحن نشعر أحياناً أن هذه الأبراج قلاع نحن محبوسون فيها·
هم أناس بسطاء نراهم في كل مكان، يعمل البعض منهم في منازلنا، ونقابل بعضهم في طرقاتنا، ونتعامل مع بعضهم في مكاتبنا ومقار أعمالنا·
إنهم أولئك الذين تقف بيننا وبينهم فوارق المال والجاه والمناصب والدرجات والمكانة الاجتماعية، لكننا نقف، نحن وهم، على درجة واحدة في سلم الإنسانية التي لا تفرق بين غني وفقير وحاكم ومحكوم وسائل ومسؤول·
كان منقبض النفس شارد الفكر غارقاً في إحصاء الخسائر التي مُني بها في ذلك اليوم الأسود من أيام سوق الأسهم التي تتردى كل يوم وتسير من سيء إلى أسوأ، وكان السائق الآسيوي يختلس النظر إلى سيده الجالس في المقعد الخلفي من السيارة عبر المرآة التي أمامه·
كان السائق هو الآخر شارد الفكر محلقاً هناك، حيث ترك زوجته وطفليه الصغيرين، أما ما كان يشغل فكره في هذه اللحظة فهي الدفعة الأخيرة التي يجب أن يوفرها كي يكتمل بناء البيت الذي حلم طوال عمره الممتد أربعين عاما باقتنائه، وهاهو يوشك أن يكتمل، لولا تأخر هذه الدفعة وعدم تمكنه من توفيرها في الوقت المناسب·
كان التجهم بادياً على وجه السيد الجالس في المقعد الخلفي من السيارة مرسلاً نظراته نحو الفراغ وهو يفكر في تعويض خسائره في الأسهم من خلال العقار المزدهر الذي يملك الكثير منه· وكان التردد بادياً على وجه السائق الذي كان ينقل نظراته بين الشارع الممتد أمامه والمرآة التي تنقل له الوضع المأساوي لوجه سيده الممتقع· لم يكن يعرف بالضبط، ما الذي يشغل بال سيده في هذا الصباح البائس، لكنه كان قد تعود في الفترة الأخيرة على العبوس والتجهم اللذين يطغيان عليه إذا ما تصفح الملاحق الاقتصادية في الجرائد، أو تلقى مكالمة هاتفية من وسيطه المالي وهو في الطريق إلى مكتبه·
هو لا يعرف كيف واتته كل هذه الشجاعة وفي هذه اللحظة بالذات، كي يفاتح سيده في الموضوع الذي قضى أياماً يستجمع فيها شجاعته ويتحين الفرصة المناسبة لمفاتحته فيه· وهو لا يعرف أيضاً، كيف اعتقد أنه ليس ثمة أفضل من هذه اللحظة التي ألقى فيها السيد بكل الملاحق الصحافية الاقتصادية على الكرسي الأمامي، ثم أغلق هاتفه النقال ورمى به إلى جانبه متأففاً· لكن الذي يعرفه جيداً أن هناك على بعد آلاف الأميال زوجة صابرة وطفلين يعيشون حلماً لم يكتمل بعد·
- هل أستطيع أن أحصل على رواتبي للشهور الثلاثة المقبلة، مقدماً يا سيدي؟
على هذا النحو أو قريباً منه، وبلغته العربية الركيكة، ألقى السائق قنبلته مستعداً لتقبل أي رد أو ردة فعل من سيده الذي لم يكن في أحسن حالاته في تلك اللحظة بالذات· وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها السائق، رد السيد الذي سأله بمنتهى الهدوء:
- لماذا؟
هنا انطلق السائق ــ غير مصدق نفسه ــ يحكي قصة حياته منذ أن وُلد على رصيف أحد الشوارع حيث لم تكن أسرته تملك بيتاً· وحتى هذه اللحظة التي ألقى فيها بالقنبلة التي حسب لها كل الحسابات إلا هذ