الأخيرة
ويبقى الوطن همنا الأكبر
كلمات لصيف آخر


حين يهل الصيف علينا في الإمارات، لا نفكر إلا في أمر واحد، هو السفر إلى حيث لا حر ولا رطوبة ولا هم يحزنون، ومنذ أيام كنت استضيف في منزلي صديقة من الجنوب اللبناني، قالت بعد أن أمضت يومها الأول وكأنها توصلت إلى اكتشاف سر الجاذبية الأرضية: لديكم أشياء ننظر إليها في لبنان على أنها من ترف الحياة أو كمالياتها، في حين أعتقد جازمة أنها من أكثر الأمور ضرورة بالنسبة لكم!! نظرت إليها أسألها توضيحاً فقالت: المكيف والسفر والسيارة ذات الزجاج المخفي مثلاً·· الطقس عندكم لا يطاق فعلاً! كانت تقول ذلك ونحن على أعتاب نهايات الصيف في شهر سبتمبر، فماذا كانت ستقول لو جاءت والصيف يحط رحاله من السطر الأول في شهر يونيو؟!
وعلى ذكر الصيف والتصييف، فإن الطقس قد شكل دوماً دافع الهروب الأول لأهل الخليج إلى بلدان العالم بحثاً عن جو أبرد، ومناظر أجمل، وقد ساعدتهم انقلابات المال والاقتصاد والبترول على الحصول على فوائد الأسفار التي كانت خمس فوائد كما في بيت الشعر المأثور وهي تفريج همّ، واكتساب معيشة، وعلم، وآداب، وصحبة ماجد، فصار التمتع بطقس جميل بارد، ومناظر خلابة والتسوق ليل نهار وبلا توقف ثلاث فوائد أخرى تضاف إلى ما سبق ذكره ولم يكن يعرفه الشاعر في زمانه!!
نحن نهرب من الطقس الحار في الخليج إلى البارد في أوروبا لأننا لا نستطيع أن نتحمل صيفنا اللاهب، وليس لدينا خيار كما هو الحال في دول أخرى، فأهل القاهرة يهربون من حرارتها لبحر الاسكندرية، وسكان بيروت يتغلبون على رطوبتها بالذهاب إلى قرى الجبال الباردة، وأهل عُمان تنقذهم جبال صلالة، كما تنقذ الطائف بعض سكان السعودية، وهكذا يفعل بعض سكان دول أوروبا المطلة على البحر المتوسط·· أما نحن فليس أمامنا سوى الهروب، أو لعن الظلام أي الحر والرطوبة واللزوجة·
وفي أوروبا أو أميركا، أنت مطالب اليوم وفي هذه الأيام النكدات التي وُضعنا فيها في خانة وتحت ملصق كبير جداً وفاقع جداً هو حرب الإرهاب، خاصة إذا كنت ممن يتمتعون بمواصفات شرقية عربية واضحة أن تضبط أعصابك كثيراً وأنت تواجه نظرات ضابط الجمارك في المطار، وسائق التاكسي، والبائع، ونادل المطعم، وموظف الاستقبال في الفندق الفخم بوسط المدينة، ورجل الأمن في المتحف الوطني، أو حتى المفتش في الحافلات والقطارات·· لأنك دون أن تعلم وبدون خطيئة ارتكبتها أو ذنب اقترفته، فأنت متهم بالإرهاب دون دليل ودون مبرر، فقط لأنك عربي أو شرقي أو مسلم، طالما أنت قادم من (الميدل إيست أي) من الشرق الأوسط!! لقد انتهى شهر العسل بين العرب وأوروبا وبين العرب وأميركا بعد أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر 2001، وأصبح الصراع مكشوفاً بشكل فج، وغير مسبوق، وكأن أصابع خفية تلعب في الظلام لتزج العالمين الغربي والإسلامي في أتون صراع رهيب بشَّر به ذات يوم الكاتب الأميركي (صموئيل هنتغتون) حيث تحدَّث عن صراع الحضارات في كتابه المعروف بالاسم ذاته·
مع ذلك فقد عدت من أوروبا هذا العام بانطباعات إيجابية، حاولت خلال إجازتي الطويلة في النمسا أن لا أدع هذه السخافات التي يحبكها أهل السياسة والاقتصاد تعكر عليَّ صفو استمتاعي بكل ذاك الجمال الذي تتمتع به مدن وقرى وريف النمسا، عُدت وأنا أحمل حكايات جميلة ومواقف لا تُنسى·· لكنني في الوقت نفسه لم يمنعني كل ذلك من يقيني بأنني سأقضي إجازتي الصيفية القادمة في جبل لبنان كما تعوّدت منذ عدة سنوات، نعم في النمسا جمال لا يوصف، لكن جمال لبنان لا يقاوم بأي شكل من الأشكال، إنه تركيبة شرقية بها من أسرار الشرق الكثير وتجليات الخالق أكثر، إنه بذخ جمال الطبيعة النضرة، ومزاج البحر المتوسط الرائق والمعبأ بالحياة وعشق الجمال، إنها روح الشرق الآسرة الغارقة في وهج مئات السنين·

عائشة سلطان
X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.