ضفاف
علي عبيد
هنا لندن
 

كانت أصوات مذيعيها تعلو وتهبط كأنها تمتطي صهوة موجة تجتاز بها أعالي البحار عبر الأثير على ترددات الموجات القصيرة والمتوسطة· حدث هذا قبل أن يتم اختراع موجات الـ "إف· إم"، وقبل أن تنتشر الإذاعات المحملة على الأقمار الصناعية وشبكات الإنترنت·
 كانت برامج مثل "السياسة بين السائل والمجيب"، و"ندوة المستمعين"، و"العالم هذا المساء"، و"قول على قول"، تشكل محطات رئيسة في حياة أجيال تربت على الاستماع إلى إذاعة "لندن" العربية بالرغم من كل الجدل الذي دار ومازال حولها، منذ أن عرف العرب الجدل فصار سمة من سماتهم، ومنذ أن اختلف البشر فأخذ العرب النصيب الأوفى من الاختلاف· لم تكن "لندن" مجرد إذاعة إخبارية، وإنما كانت مدرسة قائمة بذاتها، ونموذجاً للوسيلة الإعلامية الهادفة الملتزمة·
كان كلما رأى جارهم الثمانيني الكفيف يحرك مؤشر الراديو، متنقلاً بين الإذاعات، يعرف أنه يبحث عن إذاعته المفضلة ويظل يراقبه حتى يستقر المؤشر على تلك الإذاعة التي لا يخطئ مستمع هويتها· وكان كل من يريد أن يثبت صحة الخبر الذي ينقله ينسبه إلى نشرة أخبار "لندن" وكلما أشارت عقارب الساعات إلى السابعة مساء بتوقيت الإمارات، توجهت مؤشرات "الراديوهات" إلى موجة إذاعة "لندن" لتستمع إلى دقات "بيغ بن" معلنة "الثالثة بتوقيت غرينتش، موعد النشرة الإخبارية".
وعندما بدأت الإذاعات المحلية بثها قدمت لمستمعيها برامج تحمل من الصبغة المحلية ما لم يكونوا يجدونه في الإذاعات الأخرى، التي يأتيهم بثها من خارج الوطن، فسحبت البساط من تحت أقدام الكثير منها، لكنها لم تستطع أن تسحب البساط من تحت أقدام "لندن" التي حافظت على مكانتها لدى مستمعيها·
هكذا ظلت "لندن" متميزة ببرامجها وأصوات مذيعيها الذين حفظ المستمعون أسماءهم ونبرات أصواتهم وطريقة كل واحد منهم في الأداء، بالرغم من أنهم جميعاً قد تخرجوا من مدرسة الـ "بي· بي· سي" العربية التي ظلت مميزة ردحاً طويلاً من الزمن طال لكنه لم يستمر ويتواصل، كما كان يتمنى عشاق إذاعة "لندن" ومدمنو الاستماع إلى نشرات أخبارها· كما أن الإذاعات المحلية التي كانت ذات يوم منافساً قوياً لغيرها لم تعد تلك الإذاعات التي كانت بعدما اكتسحتها رياح التغيير فلم تبق على شيء من هويتها، وما عادت معبرة عن وجه الوطن ولا روحه·
 يبحث اليوم عن تلك الأصوات التي كانت تمتطي صهوات الأمواج وتحمل معها هديرها فلا يجدها، ولا يجد الموجات التي كانت تحملها بعد أن حلت محلها أصوات لم تستطع أن تحتل من قلبه المكانة التي كانت تلك الأصوات تحتلها. ويبحث عن تلك البرامج التي تشكلت معها ثقافات ورؤى أجيال سبقت جيله وتلته، فإذا بها قد غابت عن خريطة برامج تلك الإذاعة العريقة والإذاعات التي كانت تحاول مجاراتها، لتحل محلها برامج هجينة لا تحمل عمق تلك البرامج ولا تملك ألقها ولا ترقى إلى مستواها.
 يبحث عن إذاعته التي كانت ذات يوم مفضلة لديه فلا يجد سوى الاسم الذي كانت ولا تزال تحمله، أما الروح والمضمون فقد تغيرا تماماً، إذ ما عادت تلك الروح التي يعرفها ولا ذاك المضمون الذي أحبه· يغلق مفتاح الراديو، بعد أن يكون المؤشر قد كلَّ من البحث ولم يجد ضالته، ويعتلي صهوة موجة من موجات الخيال بعد أن خذلته موجات الراديو ليحلق عالياً، مبحراً إلى زمن يبحث عنه، عله يجده ليشكو له زمناً عجيباً لم يعد فيه شيء على حاله.
 
&
X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
ملاحظاتك
المساعد الافتراضي
qr-code
حجز موعد