العبث شعراً··
عائشة سلطان
لا يجيد البعض فن الكتابة، لا علاقة لهم به من قريب أو بعيد، هم أشخاص ناجحون في مجالات أخرى ربما، ناجحون في البيزنس، في العلاقات العامة والشخصية، في الرياضة، في الفن، في ··· لكنهم لا يستطيعون تكوين جملة واحدة مفيدة وجاذبة وصاعقة، لا لعيب فيهم، ولكن للكتابة فرسانها، كما للرياضة والبيزنس والطب و··· المواهب كثيرة، والقدرات منحة إلهية، وجهد تراكمي يتكون بالترسيب عبر الزمن، الكاتب لا يصير كاتباً بالأمنيات ولا بالدعوات ولا بالفلوس· الكاتب الحقيقي، والشاعر الحقيقي، والروائي العظيم يصيرون كذلك، لأن الله منحهم بذوراً عبقرية، وهم كانوا مزارعين جيدين، حرثوا أرواحهم بصبر وبذروا ما منحهم الخالق بحب، وتعهدوا ذلك كله بالتربية عبر سنوات كمن يتعهد طفلاً جميلاً عبقري الحسن!
مع ذلك فالكتابة إغراء يسقط أمامه كثيرون، يصرّون على أن يقنعونا بأنهم يملكونكل المواهب، وبأنهم يجيدون كل شيء حتى الكتابة·· وقد التقيت بأحد هؤلاء في أحد المؤتمرات· أهداني ديوان شعر صغيراً وكان مصراً على الوصول إليّ لمنحي هذا الشرف العظيم !! أبدى اهتماماً بموضوع المؤتمر، وأدعى أنه من متابعي مثل هذه الحوارات المهمة· في جلسة مسائية هادئة بأحد المقاهي، وأنا انتظر فنجان قهوتي المعتاد، مستمتعة بالهدوء والفراغ بعد يومٍ حافل وشاق، بين ممرات وقاعات المؤتمر، تذكرت الشاعر والكتاب، أقصد الديوان· كان ما يزال في حقيبتي، ذلك أنني لم أعد إلى الفندق منذ خرجت في الصباح إلى المؤتمر، أخرجته علَّني أجد فيه مفيداً، قرأت عنوانه واسم الشاعر الذي أهداني أيَّاه فلم أتعرَّف على الاسم، ولم أتذكَّر أنني سمعت به ذات يوم فلمت نفسي، على جهلها بالشعراء، مع ذلك فقد كان اسم الديوان مدعاة للسخرية فعلاً· وعلى الغلاف الخلفي للديوان سطّر الرجل سيرته الذاتية الحافلة، أو مايشبه السيرة·
لقد كتب يصف نفسه بأنه: >أديب وصحفي وشاعر، درس الطب والقانون واشتغل بالطيران، ثم استهواه الأزهر الشريف فدرس فيه ونال إحدى شهاداته العليا، وقبل ذلك كان أستاذاً في الأزهر!!
هل لاحظتم هذا اللغز العصي على التفكيك؟! هو بعد ذلك قارئ لكل الشعراء العرب المعاصرين والقدماء وربما الذين لم يولدوا بعد، وقد سمى مجموعة هائلة من الشعراء كلنا قرأنا قصائدهم خلال سنوات الدراسة ومن خلال كتب النصوص الأدبية·
تركت السيرة العبقرية، وتصفحت فهرس الديوان لأنتقي قصيدة ما، فوجدت عناوين عجيبة ومضحكة، مثل "حكمة الفئران" و"فلسفة الذباب"!! ففتحت بشكل عشوائي إحدى الصفحات لأفاجأ بمستوى متدنٍ جداً من الكتابة لا يرقى لكتابة طفل في الصف الرابع الابتدائي·· فعجبت كيف أن لهذا الرجل هذه الجرأة على كتابة هذا الهراء وتسميته بالشعر، في بلد يعج بعباقرة الشعر ماضياً وحاضراً وتاريخاً؟! كيف للبعض أن تكون له هذه الثقة الغريبة وغير المبررة بالنفس بأن ينتج غثاءً في لحظة عبث أو غيبوبة، ثم يقوم بكتابته وطباعته، ومن ثم يدفع به إلى المطابع والمكتبات، ثم يجرؤ أن يسميه شعراً، ويهديه للآخرين؟! هنا وجدتني ألتمس العذر لمن لا يعرف الكتابة، فيستعين بغيره ليكتب له لقاء مبلغ من المال متفق عليه·· وما أكثر هؤلاء، لكنهم أرحم من أمثال "أخينا الشاعر" صاحب الذباب والفئران!!
وكنت فيما بعد مع صديقتين في الطريق إلى الفندق، فأخرجت "الديوان" وقرأت لهما شيئاً مما ورد فيه، ضحك