ضفاف
علي عبيد
في فلسفة الرحيل

نولد من رحم البكاء، ثم تأخذنا نشوة الحياة إلى فضاءات من النعيم، حتى نظن أن كل مساحات البياض محجوزة للفرح، إلى أن تأتي صدمة الرحيل لتعيدنا إلى المربع الأول، فندرك أننا مخلوقون للنعيم والشقاء معاً، وأن جزءاً من البياض الذي نسطر عليه أحداث حياتنا محجوز للحزن والألم، خاصة عندما نفارق عزيزاً علينا أو نفقد من نحب فيرحل عن عالمنا أو نرحل نحن عن عالمه· هكذا هو حال الدنيا، لا نكاد نهنأ بصحبة من نألف حتى ينتزعه الموت منا أو ينتزعنا منه·

بالأمس كان زميلنا صبحي عمر بيننا، يفيض حيويةً ونشاطاً، يشاركنا نشوة الحياة، ويملأ مساحات البياض فرحاً، لكن الموت زائر لا يستأذن أحداً، ولا يطرق الأبواب قبل الدخول، لذلك انتزعه من بيننا وكان يمكن أن ينتزع أي واحد منا دون استئذان أيضاً، لتفقد دائرة الأخلاء جزءاً من محيطها·

كلنا نعرف تواريخ ميلادنا·· كلنا نجهل تواريخ موتنا·
 
هكذا قيل في فلسفة الموت والحياة، حكمة ربما لا ندركها إلا عندما يطرق آذاننا خبر رحيل عزيز علينا، فندرك أن هناك وجهاً آخر للحياة لا نحاول أن نعرفه، رغم أنه يفرض وجوده علينا، وينقلنا من عالم الوجود إلى عالم العدم·

في فلسفة الموت والحياة قيل الكثير من قِبَل الأحياء، لكن الذي لم يُقَل بعد لا يزال على ألسنة الموتى الذين فارقوا عالمنا· تُرى من هو الراحل ومن هو المقيم منا؟ أتراهم هم الراحلون ونحن المقيمون، أم نحن الراحلون وهم المقيمون؟ 

في فلسفة الموت والحياة يحتل الخلود جانباً مهماً من الحدث والحديث، فربما تذهب الأبدان إلى حيث نواريها الثرى، وربما تذهب الأرواح إلى عالم لم نسبر نحن الأحياء أغواره بعد، لكن شيئاً واحداً يبقى، تلك هي الذكرى التي لا يمكن أن تغيب، ذكرى أولئك الذين يتوهج ذكرهم بقدر ما أثروا الحياة ونثروا في أرضها بذوراً أنبتت زهوراً ما زال شذاها يعطر الأرجاء ويحفظ لهم مكانهم ومكانتهم في عالم الأحياء·
في فلسفة الموت والحياة لا يصبح للرحيل ذلك المعنى المجرد من أسرار البقاء والفناء، لأنه يعلن نهاية مرحلة وبداية مرحلة، نهاية مرحلة لمن يفارقنا إلى عالم لا نعرف عنه إلا القليل الذي لم نعشه، وبداية مرحلة لنا نحن الواقفين على محطات الانتظار، نوطِّن فيها أنفسنا على الفراق، ونخلق لها عوالم خالية من الذين فارقونا بأبدانهم رغم أن ذكراهم مقيمة بيننا، ونعدُّها لتحمل ألم الفراق إذا ما حان الدور على غيرهم أو علينا·

في فلسفة الموت والحياة نحاول أن نتماسك ما أتاح لنا حجم الرحيل التماسك، موقنين أن كل شيء في هذه الحياة يبدأ صغيراً ثم يكبر إلا الموت الذي يبدأ كبيرًا ثم يصغر، وأننا لا نملك حياله إلا الصبر، وأنه على قدر صبرنا على فراق من نحب يكون الرحيل درساً من دروس الحياة الصعبة التي تستوعبها عقولنا وتتقبلها نفوسنا·

هكذا يفرض الرحيل علينا نفسه ونحن نتذكر من فارقونا، تاركين لنا ألم الرحيل ولوعة الفراق، لكنها سُنة الحياة التي لا تتبدل وعلينا أن نؤمن بها ونتقبلها، وندرك أن ثمة مساحات من البياض محجوزة لمثل هذه المواقف· صحيح أنها مواقف مؤلمة، لكن النفوس المؤمنة بقضاء الله وقدره قادرة على تجاوزها·

رحم الله زميلنا صبحي عمر رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم آله وذويه وأصدقاءه الصبر والسلوان، إنا لله وإنا إليه راجعون·
X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
غلق
ملاحظاتك
المساعد الافتراضي
qr-code
حجز موعد