ضفاف
علي عبيد
ثمة عدل مؤجل

بالمنطق، كان من المفروض أن يكون حاله أفضل مما آل إليه. بحساب المقدمات والنتائج، كان الجميع يتوقع له مستقبلاً باهراً لا ينافسه فيه على المراكز الأولى أحد· وبالعدل الذي طالما سمع عنه وآمن به، كان يجب أن يتبوأ موقعاً مرموقاً يليق بذكائه المبشر ونبوغه المبكر· فقد كان الأول دائماً على أقرانه في المدرسة· وكان أكثرهم التزاماً وتحصيلاً ومواظبة، وكان أرفعهم خلقاً وأدباً· وكان أقربهم إلى قلوب أهله ومدرسيه وكل من عرفه· بمختصر العبارة،كان مضرب المثل، خلقاً والتزاماً وذكاء ونبوغاً·
 هل هذه هي المسوغات التي تقود الإنسان إلى النجاح في حياته بعد ذلك؟ يُفتَرض أن تكون الإجابة:(( وهل هناك مسوغات أكثر من هذه تمهد طريق النجاح وتقود إليه))؟
 هنا تتدخل عوامل أخرى يضع بعضهم الحظ على رأسها، ويضع البعض الآخر الفرصة إلى جانب الحظ· ويضع آخرون شروطاً أخرى تتقلص معها كل تلك المسوغات، وتتراجع إلى الصفوف الخلفية، ويخبو ضوء تأثيرها حتى لا يكاد يُرَى له بصيص من قدرة على التدخل لتغيير مسار الأمور، أو لا يعود لها تأثير على الإطلاق·
وفي المقابل، كان هناك من لم يملك أي رصيد يؤهله لتبوؤ المكانة التي وصل إليها، حتى غدا يحتل قمة هرم لم يحلم يوماً بملامسة سفحه، فإذا به يتربع فوقه· كان أقل أقرانه ذكاء وفطنة وحظوة لدى مدرسيه والمحيطين به، إلى الدرجة التي لم يستطع معها أن يواصل تعليمه، فانقطع عن الدراسة قانعاً بفرصة عمل متواضعة لاحت له تتناسب مع القدر الذي استطاع تحصيله في المدرسة التي مكنته بالكاد، من تعلم الحد الأدنى من القراءة والكتابة· ثمة أمر نبغ فيه، وربما كان هو الذي مهّد له الطريق في عالم الأعمال، وفتح له أبواب الرزق على مصراعيها بعد ذلك، فقد كان بارعاً في الحساب مولعاً بالتجارة، حتى أنه كان يمارس شيئاً منها على زملائه في المدرسة، فيشتري ويبيع ليخرج بدراهم توازي مصروفه اليومي، ثم يعيد تدوير ما كسبه ليضاعف من مدخراته، وهو لم يزل بعد طالباً على مقاعد الدراسة· أما اليوم فهو واحد من رجال الأعمال المرموقين، الذين تتصدر صورهم صفحات الجرائد، ويتحكمون في أوضاع السوق، ويوجهون بوصلة الاقتصاد في البلاد·
هذا ما آل إليه حال صاحبنا هذا· أما الأول، فقد واصل دراسته وتخرّج من الجامعة لتقوده أقداره إلى وظيفة حكومية، ظل قابعاً فيها سنواتٍ استنزفت جُلّ عمره وشغلته عن الفرص التي عرف غيره كيف يستثمرها، ليخرج من الوظيفة في النهاية محمود السيرة، لكنه خاوي الوفاض من عَرَض الدنيا كما كان يسميه· يتأمل حاله فإذا الذي خرج به أقل من الذي كان يستحقه إذا ما وضع ما أخذ وأعطى على كفتي ميزان عادل كي ينصفه، ليجد نفسه يتساءل عن العدل الذي طالما آمن به ووضعه نصب عينيه طيلة سنوات عمره التي اصفرّ الكثير من أوراقها·
 ثمة عدل آخر لا يشك في أنه موجود في مكان ما من هذا الكون ينتظر نصيبه منه·· ولكن متى يأتي هذا النصيب من العدل المؤجل ؟
 هذا هو السؤال الذي يؤرقه ويخفف من وقع الأمر عليه كلما تأمل أحوال هذه الدنيا فأمسك عن التذمر، ومضى راضياً لا يعترض على شيء منها.
 
X
تساعدنا ملفات تعريف الارتباط في تحسين تجربة موقع الويب الخاص بك. باستخدام موقعنا، أنت توافق على اسخدامنا لملفات تعريف الارتباط.
غلق