الأخيرة
ويبقى الوطن همنا الأكبر
هكذا كان رأي أبي
في عجلة الحياة وتسارع أحداثها وتبدل أيامها وأحوالها فإن أول ما يدب التغيير فيه هو طرائق تربيتنا لأبنائنا· فحين نكون صغاراً نتمنى أن نكبر· وحين نكبر نشعر بأن العمر باغتنا بأطفال صاروا مسؤوليتنا الكبرى، ونحن لم ننتهِ بعد من تمام نُضجنا·· فنعتقد بأن الخلاص من هكذا مسؤولية لا يكون إلا بأدائها على وجهها الأكمل·· حينها نكتشف بأننا لم نكوُّن بعد تجربتنا الخاصة في أصول تربية الأبناء، وليس لنا تاريخ خاص سوى ذلك الذي طبقه عليه آباؤنا·· وعندها نعاهد أنفسنا بأننا سنقتفي آثارهم، لأنهم الأكثر حكمة ومعرفة!
ونقطع الطريق مشياً بطيئاً، فالصغار لا يكبرون سريعاً·· إنهم يقطعون نياط القلب، ويستهلكون رغد الأيام وحلاوة الوقت بالخوف عليهم، بالتفكير فيهم وبالإعداد لمستقبلهم·· وتدريجياً ننسى الوعد وتبدأ الخلافات، فالكل يبدي رأياً في أسلوب التربية·· وحين يُصر الأب على تربية ابنه كما رباه أبوه، تصر الأُم على تلقي ابنها ما لقنه إياها أبواها والويل لهذا الابن إذا جاء الأبوان من بيئات مختلفة تماماً·
أُلاحظ في بيوت العائلة، وبيوت الأصدقاء والأقارب والجيران، أن هناك أنماط تربية تختلف عما تربينا عليه تماماً·· واختلافاً يصل حد التناقض، مع أن الزمن لم يتجاوز أيامنا كثيراً·· مع ذلك فنحن لا نربي أبناءنا كما تربينا·· أو على الأقل كبعض مما تربينا، وحين نفاجأ بأخطائهم الجسيمة نقذف في وجوههم بهذه الجملة: أنتم جيل بلا تربية!! فمن رباهم إذاً؟!
هناك أمران في هذه القضية التربوية: الأول أننا لا نصبر عليهم، نستسقط أخطاءهم بشكل مستفز نذرعهم من قمة رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم، لا نترك لهم شيئاً دون تعليق سلبي مستفز، ثم لا نتسامح مع شقاوات العمر·· نحن نريدهم أن يكونوا مثلنا اليوم، وننسى تماماً ضلالاتنا حين كنا في مثل أعمارهم·· عجباً للذاكرة كيف تحتال على صاحبها! أما الأمر الثاني والذي نغض الطرف عنه قصداً فهو رغبتنا في أن ننسى ضغوط الزمان وتبدل الأحوال·· رغبتنا في أن لا نعترف بأن هؤلاء لا يعيشون سنواتنا الماضية· إنهم يعيشون زمنهم بكل ما فيه·· بعيداً عن قبولنا أو رفضنا لتجليات هذا الزمان·· ألم يقولوا قديماً:"لا تربوا أبناءكم على ما تربيتم عليه، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم"؟!
هذه أولويات وثوابت في تجارب التربية، في تفاصيل الظروف، في ضرورة الأخذ بالتغيرات والتبدلات·· في أهمية المرونة·· لكن مع ذلك يبقى أن هناك يقينيات في التربية، في انتقال منظومة القيم عبر الأجيال، فالزمن يتبدل لكن الصدق يبقى قيمه غير قابلة للتجزئة، والشرف والنبل، والبخل، والأمانة، والكرم، والاجتهاد و··· هذه أمور أعتقد بأن إخضاعها لقانون النسبية هو الفشل الذريع الذي وقع فيه الكثيرون، ليس لأنهم ربوا أبناءهم على خلاف هذه القيم، ولكن لأنهم لم ينتبهوا إلى أن الزمن يأكل الأخلاق قبل أن يدوس على آثار البناء!
كثيرون تركوا أبناءهم لمؤسسات أخرى تعلمهم هذه القيم، وهنا وقع الخطأ الأكبر، فالأسرة هي الوعاء والحاضن·· وليس التلفزيون ولا الأصحاب ولا الشارع·· عدم المساءلة ليس حباً، الدلال الزائد ليس عاطفة، المرور المتهاون على تجاوز الابن للقيم ليس دليل مرونة أو ليبرالية أو تفهماً·· إنه حفر تحت أساس الجدار·· والجدار بالحفر تحته يسقط عاجلاً أم آجلاً!
يبقى أن على الأب أن يضبط ابنه في كل المواقف، وأن يضع يديه وعينيه على ثوابت المنظومة الأخلاقية، وبمنتهى الوضوح وسرعة البديهة·· لا مجال للتلكؤ أو التف